GuidePedia

0


محمد لبويهي

خصوصية الأنصاص القرآنية ودورها في ضبط الرسم العثماني عند المغاربة


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى اۤله وصحبه أجمعين.وبعد فإنه لم تعتن أمة من الأمم بكتاب من الكتب، مثلما اعتنت أمة الإسلام بالقرآن الكريم،
فمنذ نزل هذا القرآن على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون عاكفون على خدمته، ومجدون في تعلمه وتعليمه، وتفهمه وتفهيمه، وقراءته وإقرائه، إلى غير ذلك من أنواع التعامل معه تحقيقا لوعد الله الصادق: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحٰفظون﴾ الحجر الآية 9.
ومن مظاهر العناية بالقرآن وخدمة علومه العناية برسمه، وقد كان لأهل مغربنا نصيب وافر وحظ عظيم من هذا العلم الشريف، وسأتناول في هذا البحث -إن شاء الله تعالى- جانبا من جوانب جهود المغاربة في الاهتمام بهذا العلم، حيث اعتنوا برسمه وضبطه وحصر الكلمات المتشابهة فيه، وعد أحزابه وأنصافه وأرباعه وأثمانه وكلماته وحروفه، فوضعوا لذلك رموزا تساعدهم على الاحتفاظ به، كما رسمه كتبة المصحف الإمام وأجمعت عليه الأمة من الضبط والشكل وسموها بالأنصاص.

تعريف اﻷنصاص:
اﻷنصاص جمع نص على وزن أفعال، وهي عبارة عن قواعد منظومة في أراجيز مختصرة أو مطولة ينظمها الفقهاء لتلامذتهم بطريقة عفوية، وهي كلمة مغربية نجدها في كثير من الاستعمالات اليومية على شكل جمع أو مفرد، ومصطلح متداول بين أرباب القراءات في المغرب للتعبير عن مجموعة من القواعد التي تؤطر الكلمات الخارجة عن القياس في رسمها أو ضبطها أو كيفية أدائها، كما تؤطر هذه اﻷنصاص الكلمات المتشابهة في التقديم والتأخير والحذف والإثبات والزيادة والإضافة، مع التنصيص على أماكن وجودها في القرآن الكريم إما بواسطة السور أو بواسطة الأحزاب والأرباع والأثمان.

مدخل لفهم اﻷنصاص:
ترد بعض المصطلحات في اﻷنصاص مثل: "معا" أو "جيم" أو "دال عددهم"، وهذا هو الأكثر تداولا على ألسنة الطلبة، ولابد من معرفة الأرقام التي ترمز إليها تلك التسميات والمصطلحات إذا أردنا معرفة اﻷنصاص، فلفظة "معا" ترمز إلى رقم اثنين، ولفظة "جيم" ترمز إلى رقم ثلاثة، ولفظة "دال" ترمز إلى رقم أربعة، والمقصود بالدال هنا الدال المهملة، وهذا مستوحى من الحروف الأبجدية حسب ترتيبها: أَبَجَدْ هَوَزٍ حُطِيٍّ كَلَمْنٍ صَعْفَضٍ قُرِسَتْ ثَخُذْ ظَغْشٍ.
وفهم اﻷنصاص فهم للتراث، وقراءتها ارتباط بتاريخ الأمة واستكشاف لذاكرتها وماضيها لفهمه وتوظيفه لصالح الحاضر والمستقبل.

تدوين اﻷنصاص:
اﻷنصاص ليست تراثا شفهيا فقط، بحيث يتداول عن طريق الذاكرة والحفظ، بل هي أيضا علم معزز بالكتابة والتدوين، كما أنها ليست مصنفة في خانة الأدب الشعبي بفنونه المختلفة من حكايات وألغاز أو حتى الشعر الذي يغنى وينشد دون أن يعرف له قائل بالخصوص، بل هي تراث ديني باعتبار ما تحتوي عليه من ألفاظ قرآنية.
ولتوضيح أهميتها لدى القارئ الكريم نأخذ نصا من الأنصاص القرآنية كنموذج يقيد لنا لفظة (أينما) التي وردت متصلة في القرآن الكريم حيث يقول الناظم:

ما نَنْسَخْ فَلْيُقَاتِلْ فَضَّلَ وَيَنْتَهِ     أَيْنَمَا بالاتصال أربعٌ في الذكر
فالنص يحدد لنا المواضع الأربعة التي ذكرت فيها كلمة (أينما) متصلة بذكر الأرباع الموجودة فيها هذه الكلمة.
فمثلا كلمة "مانَنْسَخْ" المقصود بها نصف الحزب الثاني من سورة البقرة وقد ورد فيه قوله تعالى ﴿فأينما تولوا فتم وجه الله﴾ البقرة الآية 114. أما في باقي المواضع فقد جاءت منفصلة كقوله تعالى: ﴿اين ما تكونوا يات بكم الله جميعا﴾ البقرة الآية 147.
من هنا تظهر أهمية الكتابة والتوثيق إلى جانب الحفظ، وقد صار حفظ القرآن الكريم في الصدور وتدوينه في السطور جنبا إلى جنب منذ نزول أول آية على النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا الحاضر، وسيبقى إن شاء الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

الغاية من اﻷنصاص:
إذا كانت هذه اﻷنصاص تشكل مدرسة قائمة الذات في المغرب، فإن للسائل أن يسأل: ما مصدر هذه اﻷنصاص؟ ومن هم المؤطرون لها؟ الجواب بسيط، إن قضاء مدة طويلة في الميدان التعليمي والتربوي تكسب صاحبه مهارة تربوية يستطيع بواسطتها التصرف في المادة بكيفية يستطيع معها القدرة على الاستنباط والاستشهاد، فالفقيه الذي قضى أربعين أو خمسين سنة في الميدان التعليمي لاشك أنه اكتسب وسائل بيداغوجية يستفيد منها الوصول إلى الهدف المنشود بأقرب الطرق، فالفقيه حين يصحح ألواح التلاميذ المبتدئين والطلبة المسافرين قد يفاجأ بخطأ في لوح أحدهم فيقوم بإبراز ذلك الخطأ وتصحيحه بقلم غليظ، ثم يقوم الفقيه باستعراض نظائر تلك الكلمة والأماكن التي توجد فيها في نظم بسيط قريب إلى عقلية الطالب، وعادة ما يفتتح هذا النظم بالعبارة المتداولة بين الطلبة: "وهاك يا طالبا..." بمعنى خذ أيها الطالب الوضع الصحيح للكلمة التي أخطأت فيها مع نظائرها في القرآن الكريم.

خلاصـة:
إن الهدف العام من هذه اﻷنصاص يتمثل في:     
1- المحافظة على تواتر الرسم العثماني الذي يحمل في طياته مواضع الإعجاز ثم الحفاظ على القراءة الصحيحة المنقولة عن السلف الصالح رضوان الله عليهم، وبهذين العنصرين يكتمل حفظ القرآن الكريم رسما ولفظا.
2- تبيان كيفية رسم الكلمات حسب ورودها في القرآن الكريم.
3- تثبيت الآيات المتشابهة التي يصعب حفظها وتذكرها.
4- تأطير الكلمات المتشابهة في التقديم والتأخير والحذف والإثبات والضبط.
5- تأطير الكلمات الخارجة عن القياس في رسمها أو ضبطها أو كيفية أدائها.
6- جعل الحافظ لكتاب الله عز وجل في منأى عن الوقوع في الخطأ إن على مستوى الرسم أو الأداء.

المصدر: موقع الشيخ عبد السلام الجوهري

إرسال تعليق