محمد لبويهي
تاريخ فتح الاندلس

في عام 86 هـ وفي زمن الوليد بن عبد الملك
الأموي تولى موسى بن نصير المغرب ، فأخضع البربر ، ونشر الأمن في هذه الربوع ،
واستطاع أن يفتح طنجة فترك بها حامية يقودها مولاه طارق بن زياد ، وعهد إليه
بالعمل على نشر الإسلام في المنطقة ، وعسكر طارق بمن معه من المسلمين على سواحل
بحر الزقاق ، وبدأت أنظارهم تتجه نحو أسبانيا .وعاد موسى إلى القيروان ، وعلم طارق
أن ميناء سبتة على مقربة منه فبدأ يتحرك نحوه ، وكان حاكم سبتة يليان قد تحرر من
سلطان الدولة البيزنطية ، وأصبح كالحاكم المستقل في سبتة وماحولها ، واحتك يليان
بالمسلمين وأحس بقوتهم وضغطهم عليه ، فعمل على كسب ود طارق بن زياد ، وكان طارق
يتطلع لفتح أسبانيا ، فراسل يليان ولاطفه وتهاديا حتى يستفيد منه . وأما الأندلس
أسبانيا فقد حكمها القوط منذ عام 507 م ، غير أن أمرهم بدأ يضعف ، وقسمت أسبانيا إلى دوقيات ، يحكم كل منها
دوق ، يرجـع في سلطنته إلى الملك في طليطلة ، وقسم المجتمع إلى طبقات : أعلاها
طبقة الأشراف أصحاب الأموال والمناصب وحكام الولايات والمدن والإقطاعيون ، ثم طبقة
رجال الدين الذين ملكوا الضياع وعاملوا عبيدهم بالعسف ، ثم طبقة المستخدمين وهم
حاشية الملك وموظفو الدولة ، ثم الطبقة الوسـطى وهم الزراع والتجار والحرفيين وقد
أثقلوا بالضرائب ، وأخيراً الطبقة الدنيا وهم الفلاحين والمحاربين والعاملين في
المنازل ، وبلغ البؤس بأهل أسبانيا أن حل بهم الوباء في السنوات : 88 ، 89 ، 90 هـ
حتى مات أكثر من نصـف سكانها . وفي عام 709 م تولى العرش وتيكا الذي يسميه العرب
غيطشة ، ولكنه عزل في نهاية السنة نفسها ثم قتل ، واستلم الحكم بعده أخيلا ، وفي
العام التالي710 م وصل ردريك - ويسميه العرب لذريق – إلى الحكم بعد عزل أخيلا ،
وغرق لذريق في الشهوات حتى نفرت منه القلوب ، وانقسمت البلاد في عهده ، فظهـر حزب
قوي بزعامة أخيلا الذي حاول استرداد عرشه وحزب آخر ناصر الملك . ولما كان يليان
حليفاً لغيطشة فقد حـاول مد يد العون إلى حليفه ، ولكن أنصار لذريق ردوه عن
الأندلس إلى العدوة الإفريقية ، فتحصن في سبتة ، وأخذ يرقب الأحداث . وتذكر
الروايات أن يليان هو الذي دعا موسى لغزو الأندلس ، وذلك أن يليان كان قد أرسل
ابنته إلى قصر لذريق لتتأدب ، وتنشأ فيه أسوة بغيرها من بنات القوط في ذلك الزمان
، وأن لذريق بصر بالفتاة وطمع فيها ونال منها ، فكتبت إلى أبيها بخبرها ، فدفعه
ذلك إلى التفكير في الانتقام من لذريق ، فاتصل بطارق وزين له فتح الأندلس ، وجعل
نفسه وأتباعه أدلاء للمسلمين بعد أن اطمـأن إليهم ، وزار يليان موسى بن نصـير في
القيروان لإقناعـه بسهولة الفتح ، وطبيعي أن يشك موسى في صحة المعلومات فطلب من
يليان أن يقوم بغارة سريعة ، ففعل وعاد محملاً بالغنائم . وليس هذا هو السبب
الحقيقي للفتح ، ولكنه عجل به وساعد عليه ، وإلا فأعين طارق بن زياد على الأندلس
منذ أن وصل طنجة ، ثم إن المسلمين فتحوا فرنسا وسويسرا وصقلية وجزر المتوسط كلها
دون مساعدة يليان ، كما أن المسلمين منذ أيام عثمان بن عـفان رضي الله عنه يفكرون
بفتح القسطنطينية من جهة أوروبا بعد فتح الأندلس ، وقال عثمان حينها : { إن
القسطنطينية إنما تفتح من قبل البحر ، وأنتم إذا فتحتـم الأندلس فأنتم شركاء لمن
يفتح القسطنطينية في الأجر آخر الزمان } . وكتب موسى يستأذن الخليفة بدمشق ، فجاء
رد الخليفة الوليد : { أن خضها بالسرايا حتى تختبرها ، ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد
الأهوال } ، فكتب إليه موسى : { إنه ليس ببحر وإنما هو
خليج يكاد الناظر أن يرى ماخلفه } ، فكتب إليه الخليفة : { وإن كان ، فاختبره
بالسرايا } ، فأرسل موسى مولاه طريف ، وكان في مائة فارس وأربعين راجلاً ، في مهمة
استطلاعية ، وجاز البحر في أربعة مراكب أعانهم بها يليان ، وذلك في شهر رمضان ،
ونزل المسلمون في جزيرة صغيرة على مقربة من الموضع الذي قامت فيه بلدة حملت اسم طريف
، وخفّت قوة من أنصار يليان وأبناء غيطشة لعونهم وقامت بحراسة المعبر حتى تم
نزولهم ، ومن ذلك الموضع قام طريف وأصحابه بسلسلة من الغارات السريعة على الساحل
غنموا فيها كثيراً ، وشجع هذا موسى على عبور الأندلس . واختار موسى للفتح طارق بن زياد ، وركب طارق السفن في سبعة آلاف من
المسلمين ، جلّهم من البربر ، وبينما هو في عرض المضيق على رأس سفينته إذ أخذته
سنة من النوم ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وحوله المهاجرون والأنصار ، قد
تقلدوا السيوف ، وتنكبوا القسيّ ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يا
طارق تقدم لشأنك } ، ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس قدّامه ، فيهب طارق
مستبشراً . وألقت السفن مرساها قبالة الجزيرة الخضراء عند جبل سمي فيما بعد جبل
طارق ، وكان لذريق مشغولاً بثورة أخيلا في الشمال ، ولما علم بنزول المسلمين في
أرض أسبانيا جمع جيشاً جراراً بلغ سبعين ألفاً ، وفي رواية : مائة ألف . وجاءت
امرأة عجوز من أهل الجزيرة الخضراء إلى طارق ، وقالت له : إنه كان لها زوج عالم
بالحدثان [ أخبار الزمان ] ، فكان يحدثهم عن أمير يدخل بلدهم هذا فيتغلب عليه ،
ويصف من نعته أنه ضخم الهامة ، فأنت كذلك ، ومنها أن في كتفه الأيسر شامة عليها
شعر فإن كانت فيك فأنت هو ، فكشف ثوبه فإذا بالشامة في كتفه على ما ذكرت ، فاستبشر
ومن معه . وسار طارق باتجاه قرطبة حتى وصل لوادي بكة حرّف فيما بعد إلى وادي لكة ،
وهنا عرف طارق بأن لذريق وصل لقرطبة ، ثم تقدم واستعد للموقعة في سهل البرباط ، وأرسل
طارق يطلب المدد من موسى بن نصير ، فعجل موسى بإرسال خمسة آلاف من خيرة الجنود
يقودهم طريف ، وفيهم عدد عظيم من العرب ، فأدركوا طارقاً قبيل المعركة ، فأصبح
عددهم اثني عشر ألفاً ، وقام طارق في أصحابه خطيباً فشجعهم على الجهاد ، واستعد
لذريق للقاء ، وقد ولى ولدي غيطشة على ميمنته وميسرته . وقبيل الالتحام أجمع أولاد
غيطشة على الغدر بلذريق ، وأرسلوا إلى طارق يعلمونه أن لذريق كان تابعاً وخادماً
لأبيهم ، فغلبهم على سلطانه بعد مهلكه ، ويسألونه الأمان ، على أن يميلوا إليه عند
اللقاء فيمن يتبعهم ، وأن يسلم إليهم إذا ظفر ضياع والدهم بالأندلس كلها ، فأجابهم
طارق إلى ذلك وعاقدهم عليه ، وأرسل لذريق رجلاً من أصحابه ليعاين له جيش المسلمين
، فلما عاد قال له : خذ على نفسك ، فقد جاءك منهم من لا يريد إلا الموت ، أو إصابة
ماتحت قدميك . وقدم طارق نفراً من السودان بين يدي جيشه ليتلقوا بما عرف عنهم من
الصبر والثبات صدمة الجيش الأولى ، وبدأ القتال يوم الأحد الثامن والعشرين من
رمضان سنة 92هـ ، فأظهر فرسان القوط مقدرة عظيمة أول المعركة ، وثبتوا لضغط
المسلمين ، وأخذ يليان ورجاله يخذلون الناس عن لذريق ويصرفونهم عنه ، قائلين لهم :
إن العرب جاؤوا للقضاء على لذريق فقط ، وإنهم إن خذلوا لذريق اليوم صفت لكم
الأندلس بعد ذلك . وأثر هذا الكلام في جنود القوط فقد كان كثير منهم يكرهون لذريق ، فخرج
فرسانه من المعركة وتركوه لمصيره ، فاضطرب نظام جيشه وفر الكثير منهم ، وخارت قوى
لذريق ولم تغنه شجاعته شيئاً ، ويئس من النصر لما رأى جنده يفرون أو ينضمون
للمسلمين . وهجم طارق على لذريق فضربه بسيفه فقتله ، وقيل : إنه جرحه ورمى بنفسه
في وادي لكة فغرق ، وحمل النهر جثته إلى المحيط . وبعد مصرعه احتل المسلمون
المعسكر وغنموه ، واتجه طارق لفتح المدن الرئيسية في الأندلس ففتح شذونة ومدوّرة
وقرمونة وإشبيلية واستجة ، وكانت فيها قوة تجمعت من فلول عسكر لذريق فقاتلوا
قتالاً شديداً حتى أظهر الله المسلمين عليهم ، ولم يلق المسلمون فيما بعد ذلك
حرباً مثلها ، وأقاموا على الامتناع أولاً إلى أن ظفر طارق بأمير المدينة على
النهر وحده ، فوثب عليه طارق في الماء فأخذه وجاء به إلى المعسكر ، ثم صالحه طارق
وخلى سبيله ، واستمر طارق في زحفه ، وانتهى إلى عاصمة الأندلس طليطلة وتمكن من
فتحها . وجاءته الرسائل من موسى تأمره بالتوقف ، وعبر موسى إلى الأندلس بناء على
استغاثة وجهها إليه طارق ، وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين ، بجيش عدده ثمانية
عشر ألفاً ، ففتح بعض المدن كشذونة وقرمونة وإشبيلية وماردة ، وهي مدن لم يفتحها
طارق ، ثم التقى بطارق ووبخه على أنهم توغلوا أكثر مما ينبغي ، وأن خطوط مواصلاتهم
في الأندلس الواسعة في خطر ، فقد بقيت مناطق واسعة في شرق الأندلس وغربها لم تفتح
. وأخيراً لقد قررت معركة وادي لكة مصير الأندلس لمدة ثمانية قرون ، وظل الأثر
العربي الإسلامي في أسبانيا ليوم الناس هذا .
إرسال تعليق